من أسرار القرآن
بقلم: د. زغلـول النجـار
وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل الربع الأخير من سورة الحجر, وهي سورة مكية وآياتها تسع وتسعون(99) بعد البسملة وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة في الآية الثمانين منها إلي( الحجر) وهو اسم أطلق علي مدائن قوم نبي الله صالح ـ عليه السلام ـ الذين عرفوا باسم قوم ثمود( أو عاد الثانية). وهذه المدائن عبارة عن أعداد من البيوت المنحوتة في الصخور الرملية المكونة لجانبي( وادي القري), أو المجلوبة إلي بطن الوادي بواسطة السيول الجارفة وغيرها من وسائل النقل التي تفوق قدرة البشر لضخامة أحجامها. ومدائن صالح( الحجر) هي الآن خربة تقع إلي الشمال الغربي لمدينة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في منتصف الطريق القديم ـ تقريبا ـ بينها وبين مدينة تبوك.
ويدور المحور الرئيسي لسورة الحجر حول ركائز العقيدة الإسلامية شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
وتبدأ سورة الحجر بالحروف الهجائية الثلاثة( الر) وقد سبق لنا الحديث عنها, ولا أري داعيا لتكرار ذلك هنا, ثم تستمر الآيات الخمس الأولي في هذه السورة المباركة في التأكيد علي فضل القرآن الكريم, وعلي تنكر الكافرين له, مع إدراكهم لفضله حتي ليتمنون لو كانوا مسلمين, وذكر ما نزل بأمثالهم من قبل من عذاب وهلاك, وفي ذلك تقول الآيات: الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين* ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين* ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون* وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم* ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون*( الحجر:1 ـ5).
ثم تنتقل الآيات(6 ـ13) في سورة الحجر لاستعراض صورة من تحديات كفار ومشركي قريش لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ استهزاء به, وتنكرا لبعثته الشريفة, حتي طلبوا منه أن يأتيهم بالملائكة كي يشهدوا علي صدق نبوته, وترد الآيات عليهم مؤكدة أن الملائكة لا تتنزل إلا بالحق, وأن من هذا الحق, أن يدمر الله ـ سبحانه وتعالي ـ المكذبين بآياته ورسله بعد أن جاءتهم نذره. وتؤكد هذه الآيات كذلك أن الله ـ تعالي ـ هو الذي أنزل القرآن العظيم, وتعهد بحفظه تعهدا مطلقا حتي لا يطوله أي تبديل أو تغيير, وأن الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ لم يكن متفردا دون غيره من رسل الله ـ تعالي ـ بجحود قومه له, وتكذيبهم لبعثته, وتكبرهم عليه, وعنادهم لدعوته, واستهزائهم بشخصه الكريم. فما من نبي ولا من رسول سبقه إلا وقد أوذي من قومه, وتعرض منهم لذلك وأشد منه, فاستحقت أقوامهم المكذبة عقاب الله ـ تعالي ـ لهم في الدنيا, وعذابه في الآخرة, ولعذاب الآخرة أشد وأنكي, وفي ذلك تقول الآيات: وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون* لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين* ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين* إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون*ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين* وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون* كذلك نسلكه في قلوب المجرمين* لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين( الحجر:6 ـ13).
وتصور الآيتان(15,14) في سورة الحجر نموذجا لمكابرة أهل الباطل وعنادهم في مواجهة الحق فتقول: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون* لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون( الحجر:15,14).
وفي هاتين الآيتين الكريمتين, وفي الآيات من بعدهما(16 ـ31) استعراض لعدد من الإشارات العلمية المؤكدة علي حقيقة الخلق, وعلي عظمة الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ في ألوهيته, وربوبيته, ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه, وعلي صدق القرآن الكريم في أنه كلام رب العالمين, وفي كل ما جاء به, وفي تميزه عن كلام المخلوقين تميزا يستحيل علي الإنس والجن ـ فرادي ومجتمعين ـ أن يأتوا بشيء من مثله.
وتذكر الآيات(28 ـ50) بقصة خلق أبينا آدم ـ عليه السلام ـ, وسجود الملائكة له, وامتناع إبليس عن ذلك, وتعهده بمحاولة غواية ذريته من بعده إلي يوم الدين, كرمز للصراع بين الحق والباطل, وبين الهدي والضلال حتي قيام الساعة. كما تعرض الآيات لجزاء كل من أهل النار وأهل الجنة في الآخرة, والفارق الهائل بين الجزاءين.
ثم تنتقل الآيات(51 ـ84) إلي استعراض سير عدد من أنبياء الله ـ تعالي ـ منهم إبراهيم, ولوط, وشعيب, وصالح ـ علي نبينا وعليهم من الله السلام ـ وعلاقتهم بأقوامهم, ومصارع المكذبين من تلك الأقوام وذلك من أجل استخلاص العبرة وأخذ الدرس.
وتتوجه الآيات(85 ـ99) بالخطاب إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ مؤكدة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وعندها ينهدم بناء الكون كله, ثم يعاد خلقه بأرض غير أرضنا, وسماوات غير السماوات المحيطة بنا, ويبعث الخلق من الأرض الجديدة وهي تحتوي كل ذرات أرضنا القديمة, بالإضافة إلي المزيد من مختلف صور المادة والطاقة الجديدتين, حتي تتسع الأرض الجديدة للبلايين من المخلوقات التي عاشت وماتت, وللبلايين التي تملأ مختلف جنبات الأرض اليوم, ولتلك التي سوف تأتي من بعدنا إلي قيام الساعة. وتؤكد هذه الآيات مرة أخري أن القرآن الكريم هو هداية الله ـ تعالي ـ لخلقه التي أنزلها علي خاتم رسله وزودته بأوامر رب العالمين له ولجميع المؤمنين برسالته, وفي ذلك تقول الآيات: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل* إن ربك هو الخلاق العليم* ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم* لا تمدن عينيك إلي ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين* وقل إني أنا النذير المبين( الحجر:85 ـ89).
وتستمر الآيات منتقدة الذين قسموا القرآن قطعا متفرقة ـ وهو كل لا يتجزأ ـ مؤكدة أن الله ـ تعالي ـ سيحاسبهم علي ذلك, وموجهة الخطاب مرة أخري إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يصدع بما يؤمر, ويعرض عن الكفار والمشركين, لأن الله ـ تعالي ـ قد كفاه المستهزئين منهم, الذين كانوا يؤذون مشاعره ـ صلي الله عليه وسلم ـ ببذاءاتهم فيضيق صدره الشريف لذلك, وتوصيه الآيات بأن يفزع إلي الله ـ تعالي ـ كلما أصابه شيء من هذا الضيق, وأن يعبد الله ـ تعالي ـ مخلصا له الدين حتي يأتيه اليقين( وهو الموت) الذي جعله الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ حقا علي جميع الخلائق, وفي ذلك تقول الآيات(90 ـ99) في ختام سورة الحجر: كما أنزلنا علي المقتسمين* الذين جعلوا القرآن عضين* فوربك لنسألنهم أجمعين* عما كانوا يعملون* فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين* إنا كفيناك المستهزئين* الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون* ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون* فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين* واعبد ربك حتي يأتيك اليقين
(الحجر:90 ـ99).
وسورة الحجر في خطابها إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ تبقي خطابا لجميع القائمين علي الدعوة الإسلامية في كل زمان ومكان, وكما هددت هذه السورة الكريمة مجموع الكفار والمشركين في زمن الوحي, وتوعدتهم بمصارع الغابرين, فإنها تهدد الكفار والمشركين في كل زمان ومكان إلي اليوم, وحتي قيام الساعة, بمثل عقاب الغابرين, حتي يبقي القرآن الكريم حجة الله علي خلقه إلي يوم الدين, وحتي لا يفتتن إنسان بطغيان أهل الكفر والشرك والضلال فهلاكهم في الدنيا محتوم, وخسرانهم في الآخرة مؤكد ومعلوم!!.
من ركائز العقيدة في سورة الحجر
(1) الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, واليوم الآخر, وبأن هذا الإله الواحد الأحد, الفرد الصمد منزه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, وأن جميع رسل الله وأنبيائه دعوا إلي عبادة الله وحده( بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد) مؤكدين أن الله ـ تعالي ـ هو الغفور الرحيم, وأن عذابه هو العذاب الأليم, وأنه علي كل شيء قدير.
(2) اليقين بأن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين الذي أنزله علي خاتم أنبيائه ورسله, وتعهد بحفظه تعهدا مطلقا, في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) فحفظ لأكثر من أربعة عشر قرنا, وسيبقي محفوظا بحفظ الله ـ تعالي ـ إلي ما شاء الله, لأن وعده بحفظه وعد مطلق.
(3) التصديق بكل ما جاء في القرآن الكريم, ومن ذلك سير الأولين.
(4) التسليم بأن الله ـ تعالي ـ هو الذي يحفظ السماء من كل شيطان رجيم, فمن حاول استراق السمع أتبعه شهاب مبين.
(5) الإيمان بأن الله ـ تعالي ـ خلق كل شيء فقدره تقديرا بدقة فائقة, وأن خزائن كل شيء عنده ـ سبحانه وتعالي ـ وأنه لا ينزله إلا بقدر معلوم, وأنه ـ تعالي ـ هو المحيي المميت, وهو الوارث لكل شيء, والعليم بكل شيء ظاهر وخفي.
(6) اليقين بحتمية القيامة وما يتبعها من بعث, وحشر, وحساب وجزاء, وخلود إما في الجنة وإما في النار.
(7) التصديق بأن الله ـ تعالي ـ خلق الإنسان( في هيئة كل من أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ) من صلصال من حمأ مسنون, ومن قبل خلق الجان من نار السموم.
(
التسليم بأن الله ـ تعالي ـ نفخ الروح في الصلصال المسوي من الحمأ المسنون فصار بشرا, ثم أسجد له الملائكة فسجدوا كلهم أجمعون, وأبي ذلك إبليس اللعين, ومن هنا كانت عداوته لآدم وذريته.
(9) انطلاقا من الإيمان بأن الشيطان للإنسان عدو مبين, لابد من التسليم بأنه سيحاول دوما إغواء كل إنسان يتمكن من إغوائه, من أجل صرفه عن الدين الصحيح, والوقوع في المحارم التي حرمها رب العالمين.
(10) اليقين بأنه لا يجوز لمؤمن أن يقنط من رحمة الله أبدا, لأنه لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون من الخلق المكلفين.
(11) التصديق بأن أجل كل حي قد حدده الله ـ تعالي ـ له, ولا تستطيع قوة علي وجه الأرض تغييره.
من الإشارات الكونية والتاريخية في سورة الحجر
1 ـ التأكيد علي أن السماء بناء محكم وعظيم الاتساع, وهو ما أثبته العلم.
2 ـ وصف الحركة في السماء بالعروج وهو ما أثبتته رحلات استكشاف الكون من حولنا أخيرا.
3 ـ الإشارة إلي أن الكون يغشاه الظلام بعد تجاوز طبقة نهار الأرض الرقيقة, وهو ما رآه رواد الفضاء بأعينهم وشهدوا به.
4 ـ وصف البروج بأنها زينة للسماء المحفوظة من كل شيطان رجيم.
5 ـ ذكر أن من وظائف الشهب كونها رجوما لمن حاول استراق السمع من الشياطين.
6 ـ الإشارة إلي تكور الأرض بالوصف( مددناها), لأن المد بلا نهاية هو قمة التكوير.
7 ـ وصف إرساء الأرض بالجبال, وهو ما أثبته العلم أخيرا.
8 ـ التأكيد علي توازن كل شيء في الأرض وهو أمر ملحوظ لنا اليوم.
9 ـ الإشارة إلي تهيئة الأرض لاستقبال الحياة تهيئة كاملة.
10 ـ تقرير حقيقة أن خزائن كل شيء بيد الله ـ تعالي ـ, وأنه ـ بعلمه وحكمته وقدرته ـ لا ينزل شيئا من خزائنه إلا بقدر معلوم.
11 ـ وصف دور الرياح في تلقيح السحب المحملة ببخار الماء, وذلك بواسطة نوي التكثيف من هباءات الغبار وغيرها من أجل إنزال المطر منها لسقيا كل من النبات والحيوان والإنسان, وتخزين جزء من ماء المطر في صخور وتربة الأرض من أجل استمرارية الحياة في المناطق التي لا توجد فيها أنهار جارية أو بحيرات.
12 ـ تقرير أن الله ـ تعالي, وهو الحي الذي لا يموت, هو ـ وحده ـ القادر علي الخلق من العدم, والإحياء إلي الأجل, ثم الإماتة والقبر, ثم البعث والحشر, والحساب والجزاء بالخلود إما في الجنة وإما في النار.
13 ـ التأكيد علي خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون.
14 ـ وصف خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق, أي حسب قوانين وسنن ثابتة, والإشارة في ذلك إلي مركزية الأرض من الكون, وهو ما لا يستطيع الإنسان إثباته.
15 ـ التأكيد علي حقيقة الخلق, ونسبته إلي الله ـ تعالي ـ وحده, فهو الخلاق ذو القوة المتين.
16 ـ الإشارة بأطراف من قصص عدد من أنبياء الله( منهم آدم, وإبراهيم, ولوط, وشعيب, وصالح ـ علي نبينا وعليهم من الله السلام ـ), وهو جانب من جوانب الإعجاز التاريخي في كتاب الله